“براءتها” بالعربية الفصحى “خلود عاشور” كتبت لنا قصة جديدة مليئة بالأحداث المتلاحقة التي يحبها القراء.
بقلم خلود محمد عاشور
براءتك
تقف أمام المرآة بجسد ضعيف، وتتظاهر بالقوة من خلال قص حجابها الجديد ضد رغبة شقيقها ليناسب صديقها الذي يخطط لخطبتها عندما يعود إلى مصر في إجازة من العمل.
لقد اضطرت إلى تنسيقه بشكل جيد، فلم يكن هناك مجال لخلعه، كما أنها لم ترغب في الحفاظ على مظهره العام.
مدّت يديها ووضعت بعض الزينة على وجهها، ليس من باب الأنانية، بل لإخفاء ما تركته يدي أخيها وأبيها، كما يظهر فيهما.
حملت حقيبتها وتوجهت إلى محطة القطار.
كان القطار على وشك المغادرة فأسرعت إليه وغادر قبل أن تتمكن من الوصول إليه. وواصلت الجري دون الاهتمام بمظهرها الجسدي ومظهرها العام.
وظلت تركض والدموع بين جفنيها.
قام أحدهم بمد حقيبته لها لتمسك بها، وقام أحدهم بدعمها.
كانت تشعر بالملل لأنه لم يدعمها حتى كادت أن تسقط، وزاد مللها لأنه هو الذي يسرق منها النظرات بين الحين والآخر، ونظراته لا تتطابق مع نظراتها على الإطلاق… لأنه يبدو أنه يأتي من عالم مختلف عن عالمها.
عالم الحجاب وما لا يوصف ولا يوصف يختلف عنها تماما… فهي ترتدي الحلي التي تريدها، ولا ترتدي سوى البنطلون، والحجاب يكشف رقبتها… وتضع العطر الذي… الناس من حولها الرغبة في التهامها.
جلست هناك وعقدت ساقيها.
ابتسم لها أحد الجيران على الجانب الآخر وتوقف عن النظر إليها، فتظاهرت بتجاهله واقتربت أكثر في مقعدها.
فتضايق وجه تابعها، فأسرع ووقف في وجهه حتى لا يراها.
نظر إليها بغضب وتهديد.
جلست في مقعدها لا إرادياً…ولا تعرف السبب؟!ولكنها فعلت ذلك من باب الرضا.
وصل القطار إلى وجهته.
لقد انفصلوا في اتجاه واحد.
دخلت إلى مكتبها، وجلست على كرسيها، وأخذت الرسائل وأجابت عليها.
طرق أحدهم بابها فتجاهلته لأنها كانت مشغولة بالرد على الرسائل.
وأصر الطارق على مواصلة النزول في الشوارع.. وعندما يئس فتح الباب.
وقفت بغضب.
فكان براءتها
ابتسم ابتسامة تريح قلبك وجسدك.
لكنها لم ترد عليه الابتسامة أو تسأله عن سبب طرقه على الباب.
وبدلاً من ذلك وقفت هناك وهي تصرخ بأعلى صوتها، غاضبة وتبكي بشكل هستيري.
ولم يبد أي رد فعل بل أغلق الباب وترك صوت القرآن الكريم يتردد خلفه في الغرفة حتى لا يسمعه أحد.
صرخت بعنف وبكت بحرارة، وكأنها مع كل صرخة تضمد جرحا أصابتها منذ أيام، دون أن تمنحه وقتا للشفاء، لتضع حدا لألم الصفعة على الوجه، وتنسى أثرها السيء. أن كلمة قد تركت عليها.
واستمرت في الصراخ لأكثر من عشر دقائق. نفّست لهم عن الألم الذي بداخلها، والذي لم تكشفه لأحد ولم تمنحه وقتًا للشفاء.
تراجعت بضعف على كرسيها وجففت دموعها.
وتترقرق الدموع في عينيه حزنا عليها.
تبادلت نظرة قائلة: “لن أتمكن من ذلك”.
مسح أثر الخيانة من عينيه، ابتسم لها، وأخفض صوته خلفه، ونظر إليها ليطمئنها.
لم تتغير نظرتها… تلك النظرة الضعيفة المستقيلة.
وضع الورقة أمامها وكانا على وشك الخروج ببراءتهما، لكنه توقف والتفت إليها وقال: اكتبي ما يؤلمك على ورقة وأحرقيها.
اكتب ما يؤذيك واحذفه.
تحدث إلى الأشخاص الذين تثق بهم، وافعل كل ما بوسعك، لكن لا تدع نفسك تنفجر بهذه الطريقة.
بصوت ضعيف متألم: لم يعد هناك من أثق به.
قال بصوت مليء بالطمأنينة والحب: أنا هنا… أخبريني ما الذي يؤلمك ولن أخونه أبداً.
وكانت أمنيتها أن تتسع خلاياه ويبتسم، لكنها تذكرت الخائن الموجود في الأخبار، فأغلقت فمها وأدارت ظهرها له.
غادر بهدوء.
قصة براءتها
لقد حان الوقت لأخذ استراحة من العمل، فطرق الباب. اتصلت وجاء بكوب من العصير. وضعها أمامها وقال: “هذا أفضل من القهوة لجسمك” مد يده إلى جيبه وأخرج شوكولاتة ومسجلًا صغيرًا وقلمًا ومجموعة من الأوراق الملونة الجميلة. ثم قال: سجل، ما يؤذيك، واكتبه واحرقه… فسكت وتابع مازحا: وأنا أحق بك منك، كل ذلك، وأرجو أن أتحدث إليك، وأحببته لو كان حلالا وجاء بواجب.
استدارت في كرسيها وأدارت له ظهرها، ليس من الرغبة، بل من آثار خيبة الأمل القاسية.
فتأخر ليس ليتكلم، بل ليمل ويغضب، وخرج وقال: اشرب العصير.
ابتسمت لا إرادياً واستدارت والتهمت الشوكولاتة كالطفل… تقول لنفسها: كلهم يأتون ويذهبون حتى ينالوا مني، وعندها يبدأ العقاب، يبدأ الألم بالنسبة لي… لا أريد أحداً. يكفيني بؤس ذلك البيت.
رفعت المرآة لتنظر إلى نفسها وانصدمت من مظهرها. وقد أزيلت جميع المجوهرات وما بقي شوه الوجه بدلا من تجميله.
انتهى اليوم وعادت إلى المنزل وواجهت الامتحان.
وفي صباح اليوم التالي وجدته يقترب منها ببراءته، وهو يحمل وردة في يد، وكوب عصير وقطعة من الورق في اليد الأخرى. ووضعه أمامها وقال: عليك أن تكوني أكثر حذراً، على صحتك، صباح الخير.
كانوا بالخارج، فتوقف وقال: رغم أنني منذ زمن طويل لم أنظر إلى أي امرأة أخرى على أنها محارم لي، إلا أنني رأيت بالأمس أجمل من اليوم، بدون مجوهرات لإخفاء براءتك… ألقى لها منديلاً وقال: أزل ما يخفيك ويكشف غيرك.
ابتسمت بالرغم من نفسها وقليل من الفرح لامس قلبها.
ومرت الأيام، وكعادته لم يقاطعها، ولن تغيره أبدًا رغم عنادها.
وفي أحد الأيام دخل الشركة فوجدهم يقفون في الطابور أمام مدير الشركة.
رتب لها مقعدا بجانبه، فأسرعت نحوه وابتسمت لعفويته.
وقفت ووضعت يدها على جبهتها.
قال همساً، على مسافة متوسطة بينهما تحفظ حدود الله: سلمت عليه لا تقلق، فأنا لم أتحمل أن يترك أحد انطباعاً سيئاً عنك ولو بكلمة.
ابتسمت بالامتنان.
همس مرة أخرى وقال ألم يحن وقت خطوبتنا؟
كانت خدودها حمراء، لكن احمرارها كان يخفيه ملامح وجهها.
بعد أن نظر المدير في الأوراق، توجهوا جميعا إلى العمل.
دخل الغرفة كعادته وهو يحملها.
فضحكت وقالت: من حق الوالد أن يأتي متأخراً إلى ابنه ليحضر له اللبن.
فضحك أيضاً وقال: أعتذر لوجه الله.
ضحكت وأضافت: لا تقلق على براءتها، شكراً لاهتمامك.
ضحك وأضاف مازحا: “في الزواج أصبحنا أكثر اهتماما بما هو مسموح، لا تقلقوا”.
قال كلماته وهم يغادرون. لقد اعتاد على تجاهلها لهذه الكلمات، لكنها أوقفته: هل تضمنين أنني لن أشعر بخيبة أمل؟ لقد سئمت من تخلي عائلتي والغرباء عني.
فالتفت إليها باسم الثغر وقال: ألا يشتاق إليك شوقي وهذه الدموع في عيني تظهر لي براءتها، هذا الحزن في قلبي عندما أقع في حبك وأغرق؟!
أنا في هذه الحالة وأشارت إلى ملابسها
أومأ برأسه موافقاً وقال: نعم، ولن أجبرك على التغيير، لكني أريدك أن تفعل ذلك… وبالمناسبة: أنت أجمل بدون مجوهرات، هذه العيون وما تحتها و هذا الخد والكدمات التي فوقهم من الصفعات وذلك الأنف والجبهة والجنف وكل ذلك أجمل بدون زينة.
لا دخل لنا بما يفعله شر العالم بنا، سوى براءتهم… لكن رد فعلنا يأتي منا، ونحن مسؤولون عنه. فليس من الصواب أن تواجه شرك بالهرب منه أو إخفائه. الجمال يكمن في القوة، والقوة تعني مواجهة الشر والخير… وأنت جميلة وأنت قوية.
ابتسمت ابتسامة اشتاق إليها وجهها وقلبها وجسدها، ابتسامة افتقدتها منذ سنوات طويلة.
أخرجت درجها، وأخرجت المناديل التي أعطاها إياها سابقًا، وأزالت البقعة عن وجهها، ونظرت في المرآة بروح راضية وقلب سعيد.
فابتسم لها وقال: أنا هنا إذا أردت أن تحكي لي قصة، وسيكون ذلك أفضل لو سمح بذلك.
منتهي الصلاحية قصة براءتك. نأمل أن تنال إعجابكم أيها الزوار الأعزاء.